كلب مصري «بلدي» ضال تحول إلى نجم خطف الأنظار بالصدفة، حين التقط له أحد السياح الأجانب مقطع فيديو أثناء جلوسه بأريحية فوق قمة الهرم، وكان السائح وقتها يحلق بطائرة شراعية، ليصبح الكلب حديث الساعة، ويحصد ملايين المشاهدات مع متابعات عن كثب للكلب الذي صعد بخفة وسرعة ملحوظتين إلى قمة الهرم، وبقي هناك ينظر إلى مصر من أعلى، مثيراً ملايين الأسئلة حول العالم عن مصيره، ليعاجل الجميع بمشهد التقطته الكاميرات مرة أخرى وهو ينزل مسرعاً من أعلى لأسفل بمنتهى المهارة والإتقان، كان هذا في التوقيت ذاته الذي أعلنت فيه منظمة «بيتا» العالمية لحقوق الحيوان أن مصر لديها مقابر سرية للحيوانات التي تموت كل يوم جراء سوء المعاملة، وذلك عبر مقطع فيديو أشارت فيه إلى المعاملة السيئة التي تحظى بها الحيوانات في مصر، وخصوصاً الخيول والجمال في محيط منطقة الأهرامات مشيرة إلى ما تعانيه من الجوع والضرب المبرح.
لكن هذا لم يكن كل شيء، فبينما سارعت كاميرات العالم لتتبع مسار الكلب المصري الذي حظي لاحقاً باسم «بوكا»، كما حظي بحفاوة بالغة، طوق ذهبي لامع وابتسامات وأحضان، كانت المفارقة تقبع بعد 11.5 كيلو فقط من بوكا، حيث قرابة الـ12 كلباً تقريباً، تحديداً في كلية الطب البيطري التابعة لجامعة القاهرة، يجري شحنها بواسطة أحد موردي الكلاب إلى الكلية داخل جوال، وسط صرخات مكتومة من أفواههم المكممة، ومحاولات لتحريك ذيولهم في إشارات استغاثة حاولوا إرسالها ولو لمرة أخيرة بيأس لمن يعي أو يفهم.
لم تشعر ندى حافظ باستغراب يذكر من مشهد كلب الهرم الذي بدا أنه يتصرف على طبيعته ككل كلاب الشارع التي تدفعها غريزة الحماية لاستكشاف منطقتها التي اختارها الله لها، لكن ما أثار استغراب السيدة التي تتطوع كمنسق مجتمع مدني معتمد، هو ما جرى على بعد كيلومترات، تحديداً داخل عيادة الجراحة بكلية الطب البيطري بجامعة القاهرة، وما تبعه من استغاثات تلقتها ندى وزملاؤها عبر مجموعة «واتساب» تضم منسقي المجتمع المدني المعتمدين، لتبدأ رحلتها في محاولة لإنقاذ كلاب من الفصيلة ذاتها- البلدي- التي بلغت قمة الهرم، ولكن هذه المرة من على طاولات التشريح بقسم الجراحة في كلية الطب البيطري.
تقول لـ«كروم» «يتشارك المتطوعون في تطبيق استراتيجية 2030 ’التوعية والتطعيم لا للقتل’، ’برنامج صحة واحدة للجميع’ مجموعة ’واتساب’، تلقينا من خلالها مقطعي فيديو الأول لكلاب تصرخ بأصوات مكتومة من أفواهها المقيدة بقوة، وقد تم وضعها جميعاً داخل شكائر، وقيل ممن أرسل المقاطع إن هذا يحدث حالاً في عيادة الجراحة، دققت النظر فوجدت أحد الكلاب في الصورة يحتضر، بينما آخر يحاول أن يصرخ ويحرك ذيله بخوف من داخل الجوال مستغيثاً، فاتصلت بالدكتورة إيمان بكر عميدة كلية الطب البيطري، وأرسلت إليها مقاطع الفيديو، فوعدتني أنها سوف تعود إلى رئيس قسم الجراحة، وأن تلك الكلاب جاء بها ’المورد’ من أحد ’الكومباوندس’ وأخبرتني أنه حين يأتي بهم يقومون باستضافتهم لعدة أيام قبل أن يعيدوا توزيعها على أماكن أخرى، وأنهم لا يقومون بعمل التجارب على الحيوانات السليمة، وإنما على الحالات الميئوس منها بجانب استخدام نماذج المحاكاة، فأخبرتها أني أريد الكلاب التي ظهرت في الفيديو، وبالفعل اتفقت مع جمعية فرصة حياة للرفق بالحيوان، رئيس مجلس إدارتها الأستاذة حنان عاطف زكي، كي تقوم باستلامها من كلية الطب البيطري كجمعية معنية مشهرة وبشكل رسمي، وبالفعل توجه إبراهيم رفعت مشرف بالجمعية وسائقون لاستلام الكلاب في اليوم التالي، لكن فوجئنا برئيسة قسم الجراحة ترفض تسليم الكلاب، قبل أن تتدخل العميدة، ويتم التسليم عقب شد وجذب ومحاولات لمحو الصور التي تم التقاطها لتوثيق عملية التسليم، والتي تم إنهاؤها بسرعة خوفاً من التراجع عن تسليم الكلاب، لكن المفاجأة أننا فوجئنا بوجود قرابة الخمسة كلاب بالداخل غير السبعة التي تم تسليمها».
تم استلام الكلاب بإيصال رسمي، ووجهت ندى الشكر إلى العميدة التي ظهرت لاحقاً عبر أحد المواقع الإلكترونية لتؤكد أنه يتم استضافة الكلاب في الكلية حيث يجري- بحسبها- رعايتهم وتعقيمها وعلاجها، حديث بدا أن يتنافى مع مقاطع الفيديو والشهادات التي راحت تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت لاحقاً إلى حملة تدعو إلى إقالة كل من عميدة كلية الطب البيطري، والدكتورة خديجة جعفر الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة القاهرة في قسم الحيوان، التي كانت أول من أنشأ لجنة لأخلاقيات رعاية واستخدام حيوانات التجارب في التعليم والبحث العلمي في مصر عام 2014 باعتبارهما مسئولتين عما يجري بحق الحيوانات في الكلية.
داخل ملجأ «فرصة حياة» للرفق بالحيوان حضرت ندى في اليوم التالي من أجل الاطمئنان على الكلاب، وتحديداً ذلك الكلب الذي أوجع قلبها بمشهده حين استغاث من داخل الجوال المكتظ بالكلاب، لكن ما رأته هناك زاد ألمها بقدر أكبر تقول، «الموردون عادة ما يمسكون بالكلاب عبر أفخاخ، هكذا تنكسر أقدام الكلاب أثناء جمعها بطريقة وحشية، حين ذهبت إلى الجمعية في اليوم التالي، وجدتها جميعاً تعاني جروحاً عميقة في وجوهها من أثر الربط، وأقدامها، وكان أحد الكلاب مصاباً بصدمة ورعب شديدين، لدرجة أنه يرفض أن يأكل أو يشرب أو حتى يتعامل مع بقية الكلاب، كان يضع وجهه في الحائط لدرجة أنه يكاد يختبئ داخل الجدار إن استطاع من شدة الرعب، كما كان أحد الكلاب السبعة، ولونه أسود، قد تم بالفعل حلاقة الفراء أسفل عموده الفقري، مما يعني أنه كان يتم تحضيره لعمل عملية جراحية وإجراء تجارب». اطمأنت ندى للرعاية الكبيرة التي تتلقاها الكلاب في الجمعية، والتقطت صورة مع الكلب الذي استغاثها، اختارتها كصورة بروفايل خاصة بها، عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، واعتبرتها بمثابة انتصار حقيقي.
ندا مع كلب كلية الطب البيطري
لا تكف الحكايات المرعبة عن الخروج من أسوار كليات الطب البيطري، عاماً بعد آخر تقول ندى، «أبسط ما يحدث هناك هو تلك المحاضرة العملية التي يجب أن يتعلم خلالها الطلبة طريقة وضع كانيولا للكلب، هكذا يتم ربط الكلب على الطاولة، مع تقييده بشكل يمنعه من الحركة، وتقييد فمه كي لا يصدر صوتاً، ويبدأ الطلاب في التجربة ليحظى الكلب بنحو 500 شكة في ست ساعات، لن أتحدث عن التدريب على عمليات استئصال أعضاء من الحيوانات، كلاب أو غير ذلك، إذ يتم قتل حيوانات سليمة، واستئصال أعضائها ثم إلقائها في الشارع، لن أنسى ذلك الحمار الذي تم تدريب الطلبة على حقنه بحقنة تخدير نصفي أبيديورال، هكذا تم وضعه أمام الطلبة مستيقظاً، إذ قام كل طلاب السيكشن بحقنه في نصف ظهره، لدرجة أن بعض الطلبة أشفقوا عليه وتمنوا لو تم منحه بعض الراحة على أن يتم استكمال التعلم في يوم لاحق، وهو ما لم يحدث، كثير من الطلبة يشعرون بالصدمة والخوف، لكنهم يخشون الاعتراض خوفاً على مستقبلهم، منهم خريجة قالت لي، إنها كانت تصمت خوفاً من الرسوب فقلت لها وماذا عن الله؟ إذا اتحد الطلبة معاً للمطالبة باستخدام المجسمات، فسوف يكون لمطالبتهم صدى».
ترى ندى أن الهجوم على القائمين على الكليات لن يفيد حيوانات التجارب في شيء. تقول، «المسألة لا تتعلق بعميد كلية، فالمسئولية تقع على عاتق الجميع بداية من وزير التعليم العالي والبحث العلمي ورؤساء الجامعات، مروراً بعمداء الكليات التي تخضع الحيوانات للتجارب، كالطب البيطري والعلوم والطب البشري، وانتهاء برؤساء الأقسام وهيئات التدريس، وأيضاً لجنة الأخلاقيات، السباب والهجوم لن يفيد، الحل في التفاهم والوصول إلى صيغ وبروتوكولات واضحة كي تتغير المنظومة ويتم الاستجابة لكل النداءات التي تطالب باستخدام المجسمات بدلاً من الحيوانات الحقيقية على غرار كليات الطب في الجامعات العالمية».
لا تزال منى خليل رئيس الجمعية المصرية للرحمة بالحيوان تذكر اثنتين من السيدات في منطقة الدقي كانتا شاهدتين على خطف إحدى السيارات مجموعة من كلاب الشارع الضالة، لكن لأنه لا يوجد نص قانوني يساعدهن على اتخاذ موقف، قام الخاطفان بتهديدهما، تقول لـ«كروم»، «المشكلة أن من يحاول اللجوء إلى الشرطة للإبلاغ عن حالة انتهاك لحقوق حيوان، سوف يجد نفسه محتجزاً بدوره على طريقة محضر مقابل محضر، مع استهانة بالأمر في أكثر الوقت، على طريقة: لدينا قضايا قتل فهل سننظر في بلاغات انتهاك حقوق حيوان؟».
صحيح أن بعض وكلاء النيابة يتعاطفون بحسبها، ويدركون فداحة الجرائم في حق الحيوانات لكنها تؤكد، «في النهاية تبقى أيديهم مغلولة بسبب غياب نص قانوني واضح للتعامل مع الموقف، لدينا فراغ تشريعي في ما يتعلق بحقوق الحيوان، وهذا أمر تختص به مصر مقارنة مع كل الدول المحيطة، للأسف ليس لدينا قانون لحماية الحيوان، وهو أمر يشكل مفارقة، فمصر منذ عهد المصريين القدماء كانت في مقدمة الحضارات التي وضعت دساتير لحماية حقوق الحيوان، لكن الأمور اختلفت تماماً، ورغم وجود المادة رقم 45 في الدستور إذ تتكفل الدولة بحماية كل الحيوانات بكل أشكالها، لكن لا قانون يترجم المادة على أرض الواقع».
السيدة التي ترأس مجلس إدارة واحدة من أشهر جمعيات حقوق الحيوان في مصر لم يسمح لها بالدخول إلى حديقة حيوان الجيزة من أجل الاطمئنان على الحيوانات خلال عمليات التطوير. تقول، «مش قادرين نلاقي حد يكلمنا ويرد علينا ويورينا بيحصل إيه».
تعامل رسمي قاس مع الحيوانات لا يقتصر على التجارب الدموية على الحيوانات داخل الكليات المختلفة، ولكنه يمتد إلى إدارات البيطري التي يتهمها البعض بتسميم الكلاب في الشوارع، مروراً باتهامات بعمليات ضرب الكلاب الضالة بالخرطوش بدعوى التخلص منها، لكن الأمور لا تنتهي عند هذا الحد.
بحسب منى خليل فإن هناك حالة عامة من استساغة تعذيب الحيوانات على المستوى الشعبي، بداية من الأطفال الصغار، إذ رصدت الجمعية أنه من كل 10 حالات إساءة وتعذيب ثلاثة منها يكون المتسبب فيها طفل بشكل مباشر، بداية من خطف الجراء الصغيرة من أمهاتها، مروراً بربط الكلاب بأحجار وحبال، وإلقائها في الترع للاستمتاع بمشهدها أثناء الغرق، أما على مستوى الكبار فحدث ولا حرج، كلاب يتم توصيلها بأعمدة الكهرباء، وأخرى يتم رشها بالمياه المغلية أو المواد الكاوية، وأيضاً كلاب مذبوحة ومضروبة بسواطير وآلات حادة، فقء عيون وغير ذلك كثير من القصص البشعة.
وتشير رئيس الجمعية المصرية للرفق بالحيوان إلى أن المأساة المتواصلة في كليات الطب البيطري، يمكن وقفها بسهولة، وأنه تم طرح الحلول منذ أوائل الألفينيات، عبر مؤتمر كبير تم تنظيمه للتأكيد على إمكانية استخدام المجسمات ونماذج المحاكاة المتماثلة بديلاً عن الحيوانات، حضره أساتذة كبار من كليات الطب البيطري وآخرون من حول العالم، لكن هناك إصراراً غريباً على استخدام الحيوانات في التجارب. تقول، «لا أزال أتساءل أين ضمير الأساتذة، وماذا عن الطلبة الذين يبدؤون حياتهم الأكاديمية والعملية بتجارب دموية وغير إنسانية، تنزع الرحمة من قلوبهم؟! في رأيي أن المسألة بالكامل تتعلق بانعدام الضمير والرحمة وبالطبع الردع القانوني».
في الوقت الذي لم تصدر فيه بيانات رسمية من أي من جامعة القاهرة أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي حول واقعة كلاب كلية الطب البيطري، نفت صفحة منسوبة إلى لجنة جامعة القاهرة لاستخدام حيوانات التجارب في التعليم والبحث العلمي صلتها بكلية الطب البيطري، وأكدت في بيان أنها غير مسئولة بأي صورة عن قرارات لجنة كلية الطب البيطري لأخلاقيات التعامل مع حيوانات التجارب ولا تقع تحت إشرافها أو أي كلية أخرى أنشأت لجنة خاصة بها دون الرجوع للجنة جامعة القاهرة، وأن دور اللجنة التي ترأسها الدكتورة خديجة جعفر تقتصر على منح الموافقات للباحثين المتقدمين لإجراء دراساتهم على حيوانات التجارب بعد دراسات وافية لنموذج الطلب المتقدم به الباحث إذا استوفى اشتراطات اللجنة.
ومن جهته وصف الدكتور فايز صليب وكيل كلية الطب البيطري لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة في جامعة القاهرة، مشهد الكلاب المنتشر عبر مقاطع الفيديو بـ«المشين»، وجاء في بيان إعلامي عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، شاركته الصفحة الرسمية لكلية الطب البيطري جامعة القاهرة توضيح لموقف الكلية، قال فيه إن الشخص الذي ارتكب هذا الفعل -تقييد الكلاب بعنف ووضعها في الأجولة- لا ينتمي إلى كلية الطب البيطري ولا الجامعة، بل هو صائد كلاب ضالة تتعامل معه جمعيات الرفق بالحيوان وبعض المحليات لاصطياد الكلاب الضالة من التجمعات السكنية، التي قد تمثل خطراً، وأن الكلية توفر لهذه الكلاب الاستضافة، والرعاية والتطعيم، ثم تعيدها إلى بيئتها مرة أخرى، كما أكد احترام كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة لحقوق الحيوان، وأنه توجد لجنة تضم أساتذة من مختلف التخصصات لمراجعة معايير حقوق الحيوان وأخلاقيات البحث العلمي، داعياً المهتمين بحقوق الحيوان لزيارة الكلية للتثبت من سلامة الإجراءات.